الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
تذييل للجمل المبدوءة بقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]، أي لأنهم أحسنوا فجازاهم ربهم بالإِحسان.والإِحسان الأول: الفعلُ الحَسن، والإِحسان الثاني: إعطاء الحَسن، وهو الخَير، فالأول من قولهم: أَحسن في كذا، والثاني من قولهم: أحسن إلى فلان.والاستفهام مستعمل في النفي، ولذلك عقب بالاستثناء فأفاد حصر مجازاة الإِحسان في أنها إحسان، وهذا الحصر إخبار عن كونه الجزاء الحقَّ ومقتضى الحكمة والعدل، وإلا فقد يتخلف ذلك لدى الظالمين، قال تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] وقال: {فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما} [الأعراف: 190].وعلم منه أن جزاء الإِساءة السوء قال تعالى: {جزاءً وفاقًا} [النبأ: 26].{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)}.القول فيه مثل القول في نظائره. اهـ.
.قال ابن عطية في الآيات السابقة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)}.(من) في قوله تعالى: {ولمن} يحتمل أن تقع على جميع المتصفين بالخوف الزاجر عن معاصي الله تعالى، ويحتمل أن تقع لواحد منهم وبحسب هذا قال بعض الناس في هذه ال: إن كل خائف له {جنتان}. وقال بعضهم: جميع الخائفين لهم {جنتان}. والمقام هو وقوف العبد بين يدي ربه يفسره: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6] وأضاف المقام إلى الله من حيث هو بين يديه. قال الثعلبي وقيل: {مقام ربه} قيامه على العبد، بيانه: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33] وحكى الزهراوي هذا المعنى عن مجاهد. وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف وتحريض على الخوف الذي هو أسرع المطايا إلى الله عز وجل. وقال قوم: أراد جنة واحدة، وثنى على نحو قوله: {ألقيا في جهنم} [ق: 24] وقول الحجاج: يا غلام اضربا عنقه.وقال أبو محمد: هذا ضعيف، لأن معنى التثنية متوجه فلا وجه للفرار إلى هذه الشاذة، ويؤيد التثنية قوله: {ذواتا أفنان} وهي تثنية ذات على الأصل. لأن أصل ذات: ذوات.والأفنان يحتمل أن يكون جمع فنن، وهو فنن الغصن، وهذا قول مجاهد، فكأنه مدحها بظلالها وتكاثف أغصانها ويحتمل أن يكون جمع فن، وهو قول ابن عباس، فكأنه مدحها بكثرة أنواع فواكهها ونعيمها.و: {زوجان} معناه: نوعان. و: {متكئين} حال إما من محذوف تقديره يتنعمون {متكئين}. وإما من قوله: {ولمن خاف}. والاتكاء جلسة المتنعم المتمتع.وقرأ جمهور الناس: {فرُش} بضم الراء. وقرأ أبو حيوة: {فرْش} بسكون الراء، وروي في الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه البطائن {من استبرق} فكيف الظواهر؟ قال: «هي من نور يتلألأ».والاستبرق ما خشن وحسن من الديباج. والسندس: ما رق منه. وقد تقدم القول في لفظة الاستبرق. وقرأ ابن محيصن {من استبرق} على أنه فعل والألف وصل.والضمير في قوله: {فيهن} للفرش، وقيل للجنات، إذ الجنتان جنات في المعنى. والجنى ما يجتنى من الثمار، ووصفه بالدنو، لأنه فيما روي في الحديث يتناوله المرء على أي حالة كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع لأنه يدنو إلى مشتهيه. و: {قاصرات الطرف} هي الحور العين، قصرن ألحاظهن على أزواجهن.وقرأ أبو عمرو عن الكسائي وحده وطلحة وعيسى وأصحاب علي وابن مسعود: {يطمُثهن} بضم الميم. وقرأ جمهور القراء: {يطمِثهن} بكسر الميم. والمعنى: لم يفتضهن لأن الطمث دم الفرج، فيقال لدم الحيض طمث، ولدم الافتضاض طمث، فإذا نفي الافتضاض، فقد نفي القرب منهن بجهة الوطء. قال الفراء: لا يقال طمث إلا إذا افتض.قال غيره: طمث، معناه: جامع بكرًا أو غيرها.واختلف الناس في قوله: {ولا جان} فقال مجاهد: الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن، إذا لم يذكر الزوج الله تعالى، فتنفي هذه الآية جميع المجامعات. وقال ضمرة بن حبيب: الجن لهم {قاصرات الطرف} من الجن نوعهم، فنفى في هذه الآية الافتضاض عن البشريات والجنيات.قال القاضي أبو محمد: ويحتمل اللفظ أن يكون مبالغة وتأكيدًا، كأنه قال: {لم يطمثهن} شيء، أراد العموم التام، لكنه صرح من ذلك بالذي يعقل منه أن يطمث. وقال أبو عبيدة والطبري: إن من العرب من يقول: ما طمث هذا البعير حبل قط، أي ما مسه.قال القاضي أبو محمد: فإن كان هذا المعنى ما أدماه حبل، فهو يقرب من الأول. وإلا فهو معنى آخر غير الذي قدمن اهـ. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: {ولا جأن} بالهمز.{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)}.{الياقوت والمرجان}: هي من الأشياء التي قد برع حسنها واستشعرت النفوس جلالتها، فوقع التشبيه بها لا في جميع الأوصاف لكن فيما يشبه ويحسن بهذه المشبهات، ف {الياقوت} في إملاسه وشفوفه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المرأة من نساء أهل الجنة: «يرى مخ ساقها من وراء العظم» {والمرجان} في إملاسه وجمال منظره، وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بهذه الأشياء كدرة بنت أبي لهب. ومرجانة أم سعيد وغير ذلك.وقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} آية، وعد وبسط لنفوس جميع المؤمنين لأنها عامة. قال ابن المنكدر وابن زيد وجماعة من أهل العلم: هي للبر والفاجر. والمعنى أن جزاء من أحسن بالطاعة أن يحسن إليه بالتنعيم. وحكى النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية: «هل جزاء التوحيد إلا الجنة». اهـ..قال أبو حيان في الآيات السابقة: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)}.لما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم وخلق الإنسان والسماء والأرض وما أودع فيهما وفناء ما على الأرض، ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة الجزاء وقال: {سنفرغ لكم}: أي ننظر في أموركم يوم القيامة، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ منه.وجرى على هذا كلام العرب في أن المعنى: سيقصد لحسابكم، فهو استعارة من قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك، أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما شغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه، والمراد التوفر على الانتقام منه.قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا، والأول أبين.انتهى، يعني: أن يكون ذلك يوم القيامة.وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله: {كل يوم هو في شأن}، فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغًا لهم على طريق المثل. انتهى.والذي عليه أئمة اللغة أن فرغ تستعمل عند انقضاء الشغل الذي كان الإنسان مشتغلًا به، فلذلك احتاج قوله إلى التأويل على أنه قد قد قيل: إن فرغ يكون بمعنى قصد واهتم، واستدل على ذلك بما أنشده ابن الأنباري لجرير:أي: قصدت.وأنشد النحاس: وفي الحديث: «فرغ ربك من أربع»، وفيه: «لأتفرغن إليك يا خبيث»، يخاطب به رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إرب العقبة يوم بيعتها: أي لأقصدن إبطال أمرك، نقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء.وقرأ الجمهور: {سنفرغ} بنون العظمة وضم الراء، من فرغ بفتح الراء، وهي لغة الحجاز؛ وحمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي: بياء الغيبة؛ وقتادة والأعرج: بالنون وفتح الراء، مضارع فرغ بكسرها، وهي تميمية؛ وأبو السمال وعيسى: بكسر النون وفتح الراء.قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر؛ والأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما؛ وابن أبي عبلة والزعفراني: بضم الياء وفتح الراء، مبنيًا للمفعول؛ وعيسى أيضًا: بفتح النون وكسر الراء؛ والأعراج أيضًا: بفتح الياء والراء، وهي رواية يونس والجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو.والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض، أو لكونهما مثقلين بالذنوب، أو لثقل الإنس.وسمي الجن ثقلًا لمجاورة الإنس، والثقل: الأمر العظيم.وفي الحديث: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي»، سميا بذلك لعظمهما وشرفهما.والظاهر أن قوله: {يا معشر} الآية من خطاب الله إياهم يوم القيامة، {يوم التناد} وقيل: يقال لهم ذلك.قال الضحاك: يفرون في أقطار الأرض لما يرون من الهول، فيجدون الملائكة قد أحاطت بالأرض، فيرجعون من حيث جاءوا، فحينئذ يقال لهم ذلك.وقيل: هو خطاب في الدنيا، والمعنى: إن استطعتم الفرار من الموت.وقال ابن عباس: {إن استطعتم} بأذهانكم وفكركم، {أن تنفذوا}، فتعلمون علم {أقطار}: أي جهات {السماوات والأرض}.قال الزمخشري: {يا معشر الجن والإنس}، كالترجمة لقوله: {أيها الثقلان}، {إن استطعتم} أن تهربوا من قضائي، وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا؛ ثم قال: لا تقدرون على النفوذ {إلا بسلطان}، يعني: بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم ذلك، ونحوه: {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} انتهى.{فانفذوا}: أمر تعجيز.وقال قتادة: السلطان هنا الملك، وليس لهم ملك.وقال الضحاك أيضًا: بينما الناس في أسواقهم، انفتحت السماء ونزلت الملائكة، فتهرب الجن والإنس، فتحدق بهم الملائكة.وقرأ زيد بن علي: {إن استطعتما}، على خطاب تثنية الثقلين ومراعاة الجن والإنس؛ والجمهور: على خطاب الجماعة إن استطعتم، لأن كلًا منهما تحته أفراد كثيرة، كقوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} {يرسل عليكم شواظ}، قال ابن عباس: إذا خرجوا من قبورهم، ساقهم شواظ إلى المحشر.والشواظ: لهب النار.وقال مجاهد: اللهب الأحمر المنقطع، وقال الضحاك: الدخان الذي يخرج من اللهب، وقرأ الجمهور: {شواظ}، بضم الشين؛ وعيسى وابن كثير وشبل: بكسرها.والجمهور؛ {ونحاس}: بالرفع؛ وابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو: بالجر؛ والكلبي وطلحة ومجاهد: بكسر نون {نحاس} والسين.وقرأ ابن جبير: {ونحس}، كما تقول: يوم نحس، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضًا: {ونحس} مضارعًا، وماضيه حسه، أي قتله، أي ويحس بالعذاب.وعن ابن أبي إسحاق أيضًا: {ونحس} بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير؛ وحنظلة بن نعمان: {ونحس} بفتح النون وكسر السين؛ والحسن وإسماعيل: {ونحس} بضمتين والكسر.وقرأ زيد بن علي: {نرسل} بالنون، {عليكما شواظًا} بالنصب، {من نار ونحاسًا} بالنصب عطفًا على {} شواظًا.قال ابن عباس وابن جبير والنحاس: الدخان؛ وعن ابن عباس أيضًا ومجاهد: هو الصفر المعروف، والمعنى: يعجز الجن والإنس، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا، فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه.
|